لا يمكن الاستهانة بما شهدته العاصمة الفرنسية يوم الأربعاء الفائت، والذي لم تنتهِ تداعياته بعد، حين أقدم الشقيقان سعيد وشريف كواشي وزميلهما حميد مراد على إطلاق النار في محيط وداخل مبنى صحيفة "شارلي ايبدو" الساخرة، ما أسفر عن مقتل 12 شخصاً بينهم شرطيان.

هزّت هذه الجريمة الوسط الفرنسي ولكنها حرّكت أيضاً الدول الاوروبية بأسرها التي لم تتوقف عند حدود التضامن مع الفرنسيين، إنما عمدت إلى تعزيز إجراءاتها الأمنية ورفع منسوب الجهوزية لدى قوات الشرطة و​مكافحة الارهاب​. ولم تكد تمضي ساعات قليلة على جريمة باريس، حتى حذرت بريطانيا من أنّ مجموعاتٍ متطرفة في سوريا تخطط لمهاجمة الغرب(1).

وبدا فجأة وكأنّ ​فرنسا​ انهارت تماماً، حيث شهدت في أقلّ من يومين سلسلة اعتداءات وعمليات احتجاز رهائن، واضطر رجال الشرطة إلى الاستنفار التام في مختلف انحاء العاصمة للتدخل لفرض الأمن وإنقاذ المواطنين.

ويرى الكثيرون أنّ جريمة "شارلي ايبدو" هي نقطة مفصلية ستغيّر وجه أوروبا، ولا يمكن اتهام هؤلاء بالتشاؤم أو بالمبالغة للأسباب التالية:

1- وقعت فرنسا وأوروبا بشكل عام في الفخ الذي كانت وقعت به سابقاً الولايات المتحدة الاميركية، حيث اعتقدت أنّ "تصدير" المتشددين العرب من أراضيها إلى الشرق الاوسط وافريقيا من شأنه أن يُبعِد خطرهم عن أراضيها. صحّت هذه النظرية لفترة من الزمن ولكنها بدأت ترتدّ سلباً مع عودة هؤلاء المقاتلين إلى أوروبا، مشبّعين بما شاهدوا وسمعوا وتشرّبوا من ممارسات وأفكار متطرفة لن يجدوها في البيئة الاوروبية التي خرجوا منها. ومن الطبيعي أن يعمدوا إلى "تصحيح" أسلوب عيش المجتمعات الاوروبية وإعادتها إلى ما يعتبرونه "الطريق المستقيم".

2- تكمن أهمية الهجوم الفرنسي في عدم كونه اعتداء "خفيًا" أو غامضًا، بل نفّذ على غرار اعتداءات تشهدها دول لا تتمتع بحماية أمنية كافية. إذ ليس من المعتاد في أيّ دولة أوروبية أن ينزل مسلحون في وضح النهار، ويقطعوا الشارع في قلب العاصمة، ويطلقوا الرصاص، ويقتحموا مبنى وسيلة إعلامية فيقتلوا من يقتلون ويغادروا دون أيّ مشكلة... هذا الأمر يدلّ على استخفاف الارهابيين بالقوى الأمنية وأجهزة مكافحة الارهاب والاستخبارات.

والاخطر من ذلك أنّ عناصر القوى الامنية يشعرون بأنهم باتوا مهددين ولم تعد لديهم "الرهبة" التي كانوا يتمتعون بها، بدليل استهداف الشرطة في جنوب العاصمة الفرنسية ومقتل الشرطية كلاريسا جان فيليب، بعد ساعات فقط على مأساة "شارلي ايبدو". وهذا يعني سقوط حاجز مهم كان يساهم في ردع الارهابيين.

3- ليس غريباً أن يتداعى مسؤولون من العالم للاجتماع في فرنسا لبحث مسألة الارهاب، تماماً كما تحديد الاتحاد الاوروبي يوم 12 شباط المقبل كموعد لعقد قمة تبحث سبل مكافحة الارهاب.

ولعلّ أبرز تداعيات هذا الموضوع تعزيز الاجراءات الامنية، أي بمعنى آخر قد تصل الأمور إلى رؤية عناصر الشرطة بأسلحتهم في معظم الشوارع والمقار الرسمية وغير الرسمية، في وقت كان هذا الامر يعتبر استثنائياً ويقتصر على تدابير تتخذ خلال زيارات الشخصيات أو عقد مؤتمرات عالمية أو غيرها...

4- دقت بريطانيا وألمانيا وبلجيكا وهولندا وغيرها من الدول ناقوس الخطر، لأنّه وحتى الساعة، كانت معظم الاضطرابات والجرائم التي تقع في دول اوروبا، صغيرة الحجم وناجمة عن سخط ما من الناحية الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية. أما العمليات المرتبطة بالشؤون الدينية، فكانت تقع عبر تفخيخ عبوات أو سيارات وتفجيرها ليس بهذا الشكل "الفاضح".

ولكن القلق بات متنامياً في هذه الدول مع تصاعد وتيرة التعبير عن السخط الديني العقائدي، بحيث تمّ إثبات فشل قدرة المجتمعات الاوروبية، رغم انفتاحها، على تغيير قدرة الارهابيين على استغلال المشاعر الدينية لايصال رسائلهم الاجرامية.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، عاش الشقيقان كواشي من العام 1994 وحتى العام 2000 في مدرسة مخصصة لاستقبال أطفال يعانون من مشاكل اجتماعية، ووصفهما مدير المدرسة أنّهما كانا غير عدائيين ولا يؤذيان، قبل أن يصبحا على اللائحة السوداء الارهابية للولايات المتحدة، إثر زيارة لليمن حيث انضمّا إلى إحدى مجموعات "القاعدة".

وعليه، فإنّ كلّ عربي مسلم بات بالنسبة إلى المسؤولين الاوروبيين مشروع إرهابي، ولو أنه ولد ونشأ في الدول الاوروبية، وسيبقى بعد حادثة فرنسا، متهماً حتى يثبت العكس، في إعادةٍ للمشهد الذي عانى منه المسلمون في أميركا بعد أحداث 11 ايلول 2001.

لهذه الأسباب وغيرها، لن تبقى أوروبا على حالها بعد ما شهدته فرنسا، وقد تتحول إلى ثكناتٍ متنقلة لضمان الامن. ومن المؤكد أنه مع كل تشديد وتشدد على المسلمين الذين يتنامى عددهم في اوروبا، ستزداد الضغينة والحقد بينهم وبين مواطنيهم غير المسلمين، وسيجد الارهاب طريقاً له الى عقول الكثيرين الذين سيشوّهون صورة الاسلام الذي كان يتعايش لسنوات طويلة مع الأديان الأخرى في مختلف أنحاء العالم دون أيّ مشكلة.

(1)بتاريخ 8/1/2015، أعلن رئيس جهاز الاستخبارات الداخلية البريطانية "أم.آي.5" اندرو باركر أنّ "مجموعة من الارهابيين المتشددين من تنظيم "القاعدة" في سوريا، تخطط لشنّ اعتداءات واسعة النطاق في الغرب، قد يقوم بها مقاتلون عائدون من سوريا".